ليس بخاف علينا ، الخوف الأمريكي من عملاق الصين الناهـض
، وأنَّ أمريكا تقود الغرب اليوم في مشروع تقويض النهوض الصيني ، ومحاصرة الصين ،
وأنها ـ كما فعلت في قضيتي البوسنة ، وكوسوفو على سبيل المثال ضدّ روسيا ـ لن
تفوّت إستثمار فرصة التميّيز الصيني ضدّ الأقليات العرقية ، والدينية ، الصينية ،
إستثمارها لذلك المشروع.
ذلك أنَّ العبث بمثل هذه القضايا الداخلية ، قد غـدا لعبة
مفضّلة يستمتع بها الغرب ، لإزعاج القوى المنافسة له على المسرح الدولي .
وما عليك إلا أن تتجـوّل في لندن ،
وواشنطن ، وباريس ..إلخ ، لترى (دكاكين ) لكلّ أشكال المعارضة ، السياسة ،
والطائفية ، والعرقية ، للدول التي يتوقّـع الغرب أن يحتاج إلى إبتزازها ، أو
مساومتها ، أو إزعاجها ، يوما ما ، من شيعة القطيف ، إلى معارضي شافيز !
ولاريب أنَّ الولايات المتحدة الأمريكية ، والدول الغربية ،
لديها مثل هذه المشكلات ، وجعبتها مليئة بالتمييز ضد الأقليات ، وإضطهادهم ، ولكن
ليس ثمّة قوى عالمية منافسة للغرب ، قادرة على أنْ تردّ صاعها هذا ، بصاعـين ،
وذلك لأسباب كثيرة ، منها ما يملكه العالم الغربي ، من مقدرات لايملكها غيره ،
وأقواها التنسيق التام بين مؤسساته العملاقة ، فهو عندما يتعامل مع الحضارات
العالمية المنافسة ، يتعامل معها من منطلق أنَّه حضارة غربية واحدة ، تتحرك بنسـق
واحد ، وهذا ـ قاتله الله ـ من أعظم أسباب قوته .
ونعلم أنَّ حـلم الغربيّين أن يفصلوا التبت ، وكذلك الأيغور من
الصين ـ والأيغور خاصة لأن معظم الصواريخ البالستية الصينية في إقليمهم الغني
بالثروات أيضا ـ ليكونا مثل جورجيا ، وما حولها ، بـإزاء روسيا ، ليس لمنحها
إستقلالا حقيقيـّا، ولكن قواعد متقدِّمة ، ومخالب قطّ ، تحاصر التنين الصيني.
ولهذا فقد دعت ألمانيا كلَّ المعارضين الأيغـور ، الذين أتوْا
إلى برلين من كلِّ فج عميق ، لإقامة مؤتمرهـم العام ، الأسبوع الماضي ، وتحدثوا عن
إعادة إحياء إنفصـال تركستان الشرقية ، موطن الأيغور ، التي ضمتها الصين في
أربعينات القرن الماضي.
كما أنّنا لم ننس حلم (الشرق الأوسط الكبير) ، وأنَّ هدفه هو
تكوين هلال عملاق من دول تدور في الفلك الغربي ، تشمل أفغانسـتان ، وباكستان ،
وإيران ـ بعد تغيير النظام فيها ـ وعراق ما بعد الإحتلال الأمريكي ، لتطويق
الصين ، وروسيا ، يشبه ما كان يسمى ( حلف بغداد ) عام 1955م ، الذي كان يشمل تركيا
، والعراق والخليج الذي كان تحت بريطانيا ، وباكستان ، وإيران الشاه ، للتصدي
للتوسع الشيوعي آنذاك .
وندري أنّ الغربيين يريدون اليوم أنّ يثيروا قضية مسلمي
الأيغور ـ ولاحظوا غض النظر الغربي عن مجاهدي الأيغور ، والتغاضي عن إلحاقهم بما
يسمى "الإرهاب" حتى تم استثناؤهم بمعاملة خاصة في غوانتنامو ! ـ لا
حبّا في الإسلام والمسلمين ، ولا شفقة على حقوق الأقليات ، بل ـ إضافة إلى ما
ذكرنا أوّل المقال ـ لإظهار الصين بصورة الدولة المعادية للعالم الإسلامي ، وذلك
بعد أن نجحت الصين في منافسة الغرب ، في الحصول على عقود فلكية في بعض الدول
الإسلاميِّة ، وأخذ التنين الصيني يستعرض قوَّته متجـوِّلا في مناطق غنيَّة
بالثروات ، كان الغرب يراها حكراً عليه ، لاسيما في أفريقيا.
كما أنه ليس بعازب عنَّا ، أنَّ الصين منذ أن تأسست دولتها
الحديثة ، ليس لها تاريخ إستعماري خارج حدودها ضد أمّتنا ، وحتىّ عندما دخلت
شركاتها الكبرى في إفريقيا ، لم تحشر أنفها كما يحشره الأمريكيون بغطرستهم
المعهودة في كلِّ شيء ، وقد ارتاح الإفريقيون لهذا الشريك المسالم الجديد .
ولم تفعل ما فعله الغرب فينا من الكوارث ، والمآسي ، بدأ
من تأسيس الكيان الصهيوني وحمايته ، ومروراً بالإستعمار البغيض ، وإنتهاءً بما
يفعله اليوم من محاربة الإسلام ، وإحتلال بلاده ، وتشويهه ، وملاحقته في
العالم بأسره ، حتى ملاحقة مؤسساته الخيريّة ، وما تفعله من خدمات إنسانيّة حتى
فريضة الزكاة!
غير أنَّ هذا كلَّه لايعني أنْ لانثير قضية الإضطهاد الصيني
لمسلمي الأيغور ، وغيرهم من مسلمي الصـين ، ونحشد الطاقات الممكنة لردع الصين عن
مصادرة حقوقهم .
فمسلمو الأيغـور في الصين ، قد أسهموا في صناعة ذروة أمجاد
الإسلام ، ذلك أنـَّهم هم الجنس الذي تحدر منه السلاجقة ، الفاتحون العظام
في تاريخنا ، وجاء منهم بنو عثمان ، الذين أسسوا أعظم إمبراطورية إسلامية ، بل
أعظم إمبراطورية في التاريخ ، انضوى تحتها كلُّ العالم الإسلامي في إتحاد عالمي ،
هيمن على المعمورة .
وقد استغلت الصين الأجواء التي دهمت العالم بعد 11/9 ، فأمعنت
في ملاحقة الناشطين الأيغوريين ، بإلصاق تهمة العلاقات مع "الإرهاب"
بهم.
ثم انطلقت عملية إضطهاد واسعة لمسلمي الأيغـور ، من إغلاق
المساجد ، والمدارس الإسلامية ، والإعتقالات ، والتعذيب ، والمحاكمات غير عادلة ،
وتدمير الممتلكات ، إلى الإعدامات.
كما وضعت السلطات خططا بعيدة المدى ، لإضعاف المسلمين ،
وتقوية الأعراق الأخرى في إقليمهم .
ومن الأمثلة على ما في هذه الخطط ، من التمييز العنصري ،
تطبيق قانون ( الطفل الواحد ) على الأيغور المسلمين بكلِّ قسوة ، والتساهل
مع غيرهم ، حتى تغيَّر التوزيع السكاني في الإقليم ، وبعد أن كان المسلمون
في تركستان الشرقية يشكِّلون أكثر من 90% سنة 1942م ارتفعت نسبة الصينيين بعد
هذه الخطط ، إلى حوالي 40% !
هذا مع أنَّ المعلومات التي تخرج عن إضطهاد المسلمين في إقليم
تركستان الشرقية ، الأيغـور ، ضئيلة جداً ، ولا تمثـِّل إلاَّ أقل القليل من
الحقيقـة ، بسبب منع السلطات الصينية ، وسائل الإعلام ، والمنظمات الحقوقية ، من
كشف الحقائق.
وبعد : فكم هو الأسى يعصر القلب ، أن لايجد مسلمو الأيغور ،
إلاّ الغرب المتآمر على حضارتنا ، ليعقدوا فيه مؤتمـرهـم ، في زمن صارت بضع قضايا
المسلمين فيه ، مادة تحُرق في مشهد الصراع العالمي على الثروات ، والهيمنة .
وأمر آخر يثير الأسى ، والعجـب ، وهو تلك الألسن التي كانت
صامتة ، عندما كان الغرب ـ الذي يتباكى اليوم على مسلمي الأيغور ـ يقف بكلِّ قوته
مع الصهاينة ، وصواريخهـم تدكُّ مساجد ، ومستشفيات غزة ، دكّا دكّا ، وتقتل نساءهم
، وأطفالهم ، واليوم انطلقـت تلك الألسن ، (تلعلع) على قضية الأيغـور !
ما بالها لاتتحمَّس لقضية من قضايا المسلمين ، إلاَّ ما يتوافق
مع الأطماع الغربية ؟!!
ولكن لاعجب فهي نفسها الألسنة التي كانت تصرخ بالجهاد ضد
الإتحاد السوفيتي في أفغانسـتان ، ثم لبقايا نفوذه في البوسنة ، ثم صار الجهاد
عندها ضد المشروع الأمريكي ، فتنةً ، وإرهابـاً !!
وعلى أيـة حال ، فإنَّ واجبنا اليوم الوقوف مع محنة
مسلمي الأيغور ضد القمع الصيني .
أولاً: لأنَّ هذا واجبنا مع كلِّ شعب مسلم ، واجب
تفرضه عقيدة الولاء.
وثانيا : لتصل رسالة صارمة من أمِّتنا إلى الصين ،
مفادها أنَّ إضطهادهم للمسلمين في الصين ، لن يكون إلاَّ في صالح الغرب الذي
يستغلّ هذا التمييز العنصري ، لوضع الصين اليوم ، في صورة العداء مع الحضارة
الإسلامية ، لتخلو الساحة العالمية للأطماع الغربية ، وصهاينتهم ،
وبعدها لن يرقبوا ـ كما الغرب دائما ـ في مسلم إلاَّ ، ولا ذمـَّة .
فيا أيها الصين ، خيرٌ لك أنْ تسالمي هذه الأمة الإسلامية ،
فهـي الأمَّة التي سيكون لها المستقبـل بإذن الله تعالى .
والله حسبنا ، عليه توكّلنا ، وعليه فلتوكّل المتوكّـلون